كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



وقد يقال على هذا: إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وهذا متجه إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث والمخصص: الإجماع على نجاسة المتغير.
الوجه الثاني: اعلم أن النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل بل التوضؤ في معناه وقد ورد مصرحا به في بعض الروايات: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه» ولو لم يرد لكان معلوما قطعا لاستواء الوضوء والغسل في هذا الحكم لفهم المعنى الذي ذكرناه وأن المقصود: التنزه عن التقرب إلى الله سبحانه بالمستقذرات.
الثالث: ورد في بعض الروايات: «ثم يغتسل منه» وفي بعضها: «ثم يغتسل فيه» ومعناهما مختلف يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ولو لم يرد فيه لفظة فيه لاستويا لما ذكرنا.
الرابع: مما يعلم بطلانه قطعا: ما ذهبت إليه الظاهرية الجامدة: من أن الحكم مخصوص بالبول في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء: لم يضر عندهم أو لو بال خارج الماء فجرى البول إلى الماء: لم يضر عندهم أيضا والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم لاستواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود: اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء وليس هذا من مجال الظنون بل هو مقطوع به.
وأما الرواية الثانية: وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقد استدل به على مسألة المستعمل وأن الاغتسال في الماء يفسده لأن النهى وارد هاهنا على مجرد الغسل فدل على وقوع المفسدة بمجرده وهي خروجه عن كونه أهلا للتطهير به: إما لنجاسته أو لعدم طهوريته ومع هذا فلابد فيه من التخصيص فإن الماء الكثير- إما القلتان فما زاد على مذهب الشافعي أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة- لا يؤثر فيه الاستعمال.
ومالك لما رأى أن الماء المستعمل طهور غير أنه مكروه: يحمل هذا النهي على الكراهة.
وقد يرجحه: أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير والحديث عام في النهى فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية: لم يناسب ذلك لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه خارجا عن الطهورية وإذا حمل على الكراهة: كانت المفسدة عامة لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة إلا أن فيه حمل اللفظ على المجاز أعني حمل النهى على الكراهة فإنه حقيقة في التحريم.
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» ولمسلم: «أولاهن بالتراب».
7- وله في حديث عبد الله بن مغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعا وعفروه الثامنة بالتراب».
فيه مسائل:
الأولى: الأمر بالغسل ظاهر في تنجيس الإناء وأقوى من هذا الحديث في الدلالة على ذلك: الرواية الصحيحة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه لكلب: أن يغسل سبعا» فإن لفظة: «طهور» تستعمل إما عن الحدث أو عن الخبث ولاحدث على الإناء بالضرورة فتعين الخبث.
وحمل مالك هذا الأمر على التعبد لاعتقاده طهارة الماء والإناء وربما رجحه أصحابه بذكر هذا العدد المخصوص وهو السبع لأنه لو كان للنجاسة: لاكتفى بما دون السبع فإنه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة وقد اكتفى فيها بما دون السبع والحمل على التنجيس أولى لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبدا أو معقول المعنى كان حمله على كونه معقول المعنى أولى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى.
وأما كونه لا يكون أغلظ من نجاسة العذرة فممنوع عند القائل بنجاسته نعم ليس بأقذر من نجاسة العذرة ولكن لا يتوقف التغليظ على زيادة الاستقذار.
وأيضا فإذا كان أصل المعنى معقولا قلنا به وإذا وقع في التفاصيل ما لم يعقل معناه في التفصيل لم ينقص لأجله التأصيل ولذلك نظائر في الشريعة فلو لم تظهر زيادة التغليظ في النجاسة لكنا نقتصر في التعبد على العدد ونمشي في أصل المعنى على معقولية المعنى.
المسألة الثانية: إذا ظهر أن الأمر بالغسل للنجاسة: فقد استدل بذلك على نجاسة عين الكلب ولهم في ذلك طريقان:
أحدهما: أنه إذا ثبتت نجاسة فمه من نجاسة لعابه فإنه جزء من فمه وفمه أشرف ما فيه فبقية بدنه أولى.
الثاني: إذا كان لعابه نجسا- وهو عرق فمه- ففمه نجس والعرق جزء متحلب من البدن فجميع عرقه نجس فجميع بدنه نجس لما ذكرناه من أن العرق جزء من البدن.
فتبين بهذا: أن الحديث إنما دل على النجاسة فيما يتعلق بالفم وأن نجاسة بقية البدن بطريق الاستنباط.
وفيه بحث وهو أن يقال: إن الحديث إنما دل على نجاسة الإناء الولوغ وذلك قدر مشترك بين نجاسة عين اللعاب وعين الفم أو تنجسهما باستعمال النجاسة غالبا والدال على المشترك لا يدل على أحد الخاصين فلا يدل الحديث على نجاسة عين الفم أو عين اللعاب فلا تستقيم الدلالة على نجاسة عين الكلب كله.
وقد يعترض على هذا بأن يقال: لو كانت العلة تنجيس الفم أو اللعاب- كما أشرتم إليه- لزم أحد أمرين وهو إما وقوع التخصيص في العموم أو ثبوت الحكم بدون علته: لأنا إذا فرضنا تطهير فم الكلب بماء كثير أو بأي وجه كان فولغ في الإناء: فإما أن يثبت وجوب غسله أو لا فإن لم يثبت وجب تخصيص العموم وإن ثبت لزم ثبوت الحكم بدون علته وكلاهما على خلاف الأصل.
والذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال أن يقال: الحكم منوط بالغالب وما ذكرتموه من الصور نادر لا يلتفت إليه وهذا البحث إذا انتهى إلى هنا يقوي قول من يرى أن الغسل لأجل قذارة الكلب.
المسألة الثالثة: الحديث نص في اعتبار السبع في عدد الغسلات وهو حجة على أبي حنيفة في قوله: يغسل ثلاثا.
المسألة الرابعة: في رواية ابن سيرين زيادة: «التراب» وقال بها الشافعي وأصحاب الحديث وليست في رواية مالك هذه الزيادة: فلم يقل بها والزيادة من الثقة مقبولة وقال بها غيره.
المسألة الخامسة: اختلفت الروايات في غسلة الترتيب ففي بعضها: «أولاهن» وفي بعضها: «أخراهن» وفي بعضها: «إحداهن» والمقصود عند الشافعي وأصحابه: حصول الترتيب في مرة من المرات وقد يرجح كونه في الأولى: بأنه إذا ترب أولا فعلى تقدير أن يلحق بعض المواضع الطاهرة رشاش بعض الغسلات لا يحتاج إلى تتريبه وإذا أخرت غسلة التتريب فلحق رشاش ما قبلها بعض المواضع الطاهرة: احتيج إلى تتريبه فكانت الأولى أرفق بالمكلف فكانت أولى.
المسألة السادسة: الرواية التي فيها: «وعفروه الثامنة بالتراب» تقتضي زيادة مرة ثامنة ظاهرا وبه قال الحسن البصري وقيل: لم يقل به غيره ولعله المراد بذلك من المتقدمين.
والحديث قوي فيه ومن لم يقل به: احتاج إلى تأويله بوجه فيه استكراه.
المسألة السابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: «فاغسلوه سبعا أولاهن أو أخراهن بالتراب» قد يدل لما قاله بعض أصحاب الشافعي: إنه لا يكتفي بذر التراب على المحل بل لابد أن يجعله في الماء ويوصله إلى المحل.
ووجه الاستدلال: أنه جعل مرة التتريب داخله في قسم مسمى الغسلات وذر التراب على المحل لا يسمى غسلا وهذا ممكن وفيه احتمال لأنه إذا ذر التراب على المحل وأتبعه بالماء يصح أن يقال: غسل بالتراب ولابد من مثل هذا في أمره صلى الله عليه وسلم في غسل الميت بماء.
وسدر عند من يرى أن الماء المتغير بالطاهر غير طهور إن جرى على ظاهر الحديث في الاكتفاء بغسلة واحدة لأنها تحصل مسمى الغسل. وهذا جيد.
إلا أن قوله: «وعفروه» قد يشعر بالاكتفاء بالتتريب بطريق ذر التراب على المحل فإن كان خلطه بالماء لا ينافي كونه تعفيرا لغة فقد ثبت ما قالوه ولكن لفظة: التعفير حينئذ تنطلق على ذر التراب على المحل وعلى إيصاله بالماء إليه والحديث الذي دل على اعتبار مسمى الغسلة إذ دل على خلطه بالماء وإيصاله إلى المحل به فذلك أمر زائد على مطلق التعفير على التقدير الذي ذكرناه من شمول اسم: التعفير للصورتين معا أعني ذر التراب وإيصاله بالماء.
المسألة الثامنة: الحديث عام في جميع الكلاب وفي مذهب مالك: قول بتخصيصه بالمنهي عن اتخاذه والأقرب: العموم لأن الألف واللام إذا لم يقم دليل على صرفها إلى المعهود المعين فالظاهر كونها للعموم ومن يرى الخصوص قد يأخذه من قرينة تصرف العموم عن ظاهرة فإنهم نهوا عن اتخاذ الكلاب إلا لوجوه مخصوصة والأمر بالغسل مع المخالطة عقوبة يناسبها الاختصاص بمن ارتكب النهي في اتخاذ ما منع من اتخاذه وأما من اتخذ ما أبيح له اتخاذه فإيجاب الغسل عليه مع المخالطة عسر وحرج ولا يناسبه الإذن والإباحة في الاتخاذ وهذا يتوقف على أن تكون هذه القرينة موجودة عند النهي.
المسألة التاسعة: الإناء عام بالنسبة إلى كل إناء والأمر بغسله للنجاسة إذا ثبت ذلك يقتضي تنجيس ما فيه فيقتضي المنع من استعماله.
وفي مذهب مالك قول أن ذلك يختص بالماء وأن الطعام الذي ولغ فيه الكلب لا يراق ولا يجتنب وقد ورد الأمر بالإراقة مطلقا في بعض الروايات الصحيحة.
المسألة العاشرة: ظاهر الأمر الوجوب وفي مذهب مالك قول: إنه للندب وكأنه لما اعتقد طهارة الكلب- بالدليل الذي دله على ذلك- جعل ذلك قرينة صارفة للأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب والأمر قد يصرف عن ظاهره بالدليل.
المسألة الحادية عشرة: قوله: «بالتراب» يقتضي تعينه وفي مذهب الشافعي قول- أو وجه- إن الصابون والأشنان والغسلة الثامنة تقوم مقام التراب بناء على أن المقصود بالتراب: زيادة التنظيف وأن الصابون والأشنان يقومان مقامه في ذلك وهذا عندنا ضعيف لأن النص إذا ورد بشيء معين واحتمل معنى يختص بذلك الشيء لم يجز إلغاء النص.
واطراح خصوص المعين فيه والأمر بالتراب- وإن كان محتملا لما ذكروه وهو زيادة التنظيف- فلا نجزم بتعيين ذلك المعنى فإنه يزاحمه معنى آخر وهو الجمع بين مطهرين أعني الماء والتراب وهذا المعنى مفقود في الصابون والأشنان.
وأيضا فإن هذه المعاني المستنبطة إذا لم يكن فيها سوى مجرد المناسبة فليست بذلك الأمر القوي فإذا وقعت فيها الاحتمالات فالصواب اتباع النص.
وأيضا فإن المعنى المستنبط إذا عاد على النص بإبطال أو تخصيص: مردود عند جمع من الأصوليين.
8- عن حمران مولى عثمان بن عفان رضي الله عنهما: أنه رأى عثمان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه».
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف أسلم قديما وهاجر الهجرتين وتزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقتل يوم الجمعة لثماني عشرة خلون من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة ومولاه حمران بن أبان بن خالد كان من سبي عين النمر ثم تحول إلى البصرة احتج به الجماعة وكان كبيرا.
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أحدها: الوَضوء بفتح الواو: اسم للماء وبضمها: اسم للفعل على الأكثر وإذا كان بفتح الواو اسما للماء- كما ذكرناه- فهل هو اسم لمطلق الماء أو للماء بقيد كونه متوضئا به أو معدا للوضوء به؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف.
وينبني عليه فائدة فقهية وهو أنه في بعض الأحاديث التي استدل بها على أن الماء المستعمل طاهر: قول جابر: «فصب علي من وضوئه» فإنا إن جعلنا الوضوء إسما لمطلق الماء لم يكن في.
قوله: «فصب علي من وضوئه» دليل على طهارةالماء المستعمل لأنه يصير التقدير: فصب علي من مائه ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الذي استعمل في أعضائه لأنا نتكلم على أن الوضوء اسم لمطلق الماء وإذا لم يلزم ذلك: جاز أن يكون المراد بوضوئه: فضلة مائه الذي توضأ ببعضه لا ما استعمله في أعضائه فلا يبقى فيه دليل من جهة اللفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمل.